المادة    
إن تبعة الدعوة وثقل الأمانة عظيم، وهي تبدأ عندما تبلغ الناس الحق وتنتهي بأن تقود هؤلاء الناس، وتوجههم وتضبط تصرفاتهم حتى يستقيموا على الحق مادمت حياً على الأقل، وتضمن أن يستقيموا على ذلك فيما بعد، ثم هي مرحلة طويلة وخطوة عظيمة، وليست -كما يتصور البعض- أنها كلمة تقال!! ومن هنا كان النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مربياً ومزكياً، فهو يزكي هذه القلوب: بالخير، والإيمان، والجهاد، والصبر، والعلم، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر تزكية يومية مستمرة، ومن هنا تجدون مراحل الدعوة كيف تغيرت.
  1. التربية بالمعارك في عهد النبي صلى الله عليه وسلم

    لما خرج النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلى بدر خرج معه من خرج، وقد أراد الله أن يصطفي تلك الطائفة بأن تكون من أهل بدر الذين قال لهم: {اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم}.
    ويوم أحد خرج معه أول الأمر من خرج، ثم في آخر المعركة قال: {لا يخرج معنا إلى حمراء الأسد إلا من خرج معنا في أحد}.
    وفي يوم حنين فر من فر، ويأتي يوم تبوك يوم تخلف المنافقون الذين كانوا يقسمون بالله جهد أيمانهم لئن أمرتهم ليخرجن، وهذه هي طبائع المنافقين أصحاب الوعود الكاذبة، والأماني الزائفة، -إننا نخاف على أنفسنا من النفاق، ونخاف أن تنطبق هذه الآية علينا، وإن كانت عن النفاق؛ لكنها قد تنطبق علينا بسبب ما فينا من الفتور، وضعف الهمة، ووهن العزيمة- فهم يحلفون ويقسمون الأيمان، حتى إذا جاء النفير وقال لهم رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: انفروا؛ تخلفوا.
    ثم يأتون بعد ذلك فيقسمون الأيمان إننا لمعذورون، فما منعكم؟
    قالوا: شغلتنا أموالنا وأهلونا، ويعتذرون بالأعذار التي لا تنفعهم شيئاً عند الله، لكن الثلاثة الذين تخلفوا ولم يقبل منهم ولم يعتذروا بالكذب، والمقصود كيف عوقب الثلاثة؟
    ولم؟
    لأنهم تربوا، وزكيت قلوبهم على يد محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ طويلاً، فلن تكون معاملتهم كأولئك! وذلك البناء الطويل بعد هذه الجهود العظيمة وهم من السابقين، رجلان شهدا بدراً والآخر شهد البيعة، فلا يمكن أن يكون الأمر بهذه البساطة.
    انظروا إلى نوح -عليه السلام- لبث في قومه ألف سنة إلا خمسين عاماً، فكانت الحصيلة أنه ما آمن منهم إلا قليل، قيل: بضع وثمانون رجلاً وامرأة؛ فكان مجموع من آمنوا مع نوح -عليه السلام- حملتهم سفينة واحدة، والسفينة ليست لهم خاصة؛ بل حمل من كلِ زوجين اثنين، فكل من آمن مع نسائهم وأطفالهم، ومع من شاء الله له أن يحمل من الحيوانات.
    وهؤلاء كلهم الذين نجوا نتيجة دعوة ألف سنة إلا خمسين عاماً لماذا؟
    لأن الأمر ليس مجرد أن نوحاً -عليه السلام- يقول للناس قولاً، أو أن هذا الإيمان هين وسهل، بل الإيمان بناء عظيم، وتبعة كبيرة، يستتبع الواجبات الثقال على الإنسان، ومن هنا كان تفاوت الناس في الإيمان بقدر تفاوتهم في الهمم.
    انظروا إلى الصحابة رضي الله عنهم كيف كانت هممهم قبل أن يسلموا، وكيف كانت بعد أن أسلموا، ماذا قال أبو جهل يوم بدر قال: لا نرجع حتى ننزل بـبدر، فتعزف القيان ونشرب الخمر، وتسمع بنا العرب فلا تزال تهابنا أبد الدهر.
    هذه همة الجاهليين في كل زمان ومكان؛ لكن الصحابة -رضوان الله عليهم- همتهم عالية، عظيمة، بعيدة، فعندما عرض النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نفسه عام الوفود على بني فلان وبني فلان، والكل يتململ ويعتذر، قالوا: نخشى قومك، وقالوا له: هل يكون لنا الأمر من بعدك؟
    قال: الأمر لله، والأرض لله يورثها من يشاء.
    ثم جاء أصحاب الهمم العالية والنفوس المتطلعة إلى الأمر الأعظم فقالوا: ما يكون لنا يا رسول الله إن نحن فعلنا؟
    قال: لكم الجنة، فقالوا: الجنة؟
    ربح البيع إذن! والله لا نقيل ولا نستقيل، همة عالية أعلى من هذه الدنيا، ولا يعني ذلك أنهم لن يرثوا الأرض، بل أخبرهم النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في حياته فقال:{إذا هلك كسرى فلا كسرى بعده، وإذا هلك قيصر فلا قيصر بعده، والذي نفسي بيده لتنفقن كنوزهما في سبيل الله} فأنفقت في سبيل الله عز وجل، وورث سراقة سواري كسرى لما كانت الهمة العالية المتطلعة إلى الأعلى، أورثت الأدنى تلقائياً.
  2. بناء الهمة العالية في نفوس شباب الصحوة

    ومن هنا يجب أن تكون الهمة العالية في طلب العلم، وأن تكون الهمة العالية في بناء الإيمان في القلب، ثم في نقله وتحويله إلى الناس في واقع منضبط يأتمر بأمر الله تعالى، لا نريد الإيمان الذي يتحول إلى حركات وارتجالات وانفعالات فقط، إنما نريد من الشباب المؤمن أن يزداد إيماناً، حتى تنضبط هذه العاطفة على الإيمان، وتصبح تأتمر وتنتهي بأمر الله وبأمر رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
    تكون كما كان قلب الصديق رضي الله عنه في يوم الحديبية، عندما قال عمر رضي الله عنه: {يا رسول الله ألسنا مؤمنين؟
    ألسنا على الحق؟
    فعلام نعطيهم الدنية في ديننا؟
    قال له الصديق: لا يا عمر، إنه رسول الله
    } والنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال له: {إنني رسول الله ولن يضيعني الله}.
    هكذا التسليم لأمر الله، ولأمر رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مهما كانت العاطفة تجيش، ونظن أن هذا الحماس لمصلحة الحق والدعوة، لكن الكل يضبط بضابط محكم، وهو الاتباع لسنة الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
    ولذلك تجد كثيراً من الإخوة لديهم غلو في طلب العلم، وغلو في تطبيق بعض الأمور، وغلو في الدعوة، وفي تعجل النتائج.. الخ، والطائفة الأخرى لديها من التثاقل ومن التثبيط، ومن عدم التجاوب ما يميت، فيكسل بعض الدعاة، فلا شعور ولا إحساس يمكن أن يحركه! فلو أن الدعاة أو المدعوين من أمثال هذه النوعية فلن تتقدم الدعوة خطوة واحدة أبداً.
    يجب أن نجعل كل أوقاتنا، واهتماماتنا بأمر الدعوة كأساس وأصل، ومنهج، كيف نطلب العلم؟
    كيف نعمل لهذا العلم؟
    كيف نصبر؟
    وأن يكون ذلك كله منضبطاً بأمر الله، وأمر رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، كما قال الله تعالى: ((وَالْعَصْرِ * إِنَّ الْأِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ * إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ))[العصر:1-3] وتكون سيرة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وسيرة السلف الصالح أمامنا دائماً.
    فنطلب من العلم ما طلبوا، ونهتم بمثل ما اهتموا به، ولا ننظر إلى العاجل، ولانخاف في الله لومة لائم، كما ذكر الله عز وجل، ندعو كما دعوا؛ ففيهم الأسوة والقدوة، ونصبر كما صبروا، ونتحمل كما تحملوا، ونلاقي في ذات الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى كما لاقوا.
    فإذا كنا على آثارهم فثقوا أننا سنصل -بإذن الله- إلى شيءٍ مما وصلوا إليه، أو يشملنا الله تعالى برحمته فيوصلنا إلى ما وصلوا إليه، وينشر الله دعوته ودينه على أيدينا، فيكون لنا بذلك فضل السبق في زمن الغربة، وفي زمن الفتنة، ونكون من الغرباء الذين يصلحون ما أفسد الناس، أو يصلحون عند فساد الناس.
    إن الواجب عظيم، فأوصي نفسي وإخواني أن نتذكر دائماً أن هذا الواجب عظيم وثقيل، وأننا نحن طلبة العلم أكثر الناس مسئولية عند الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وهذه أمانة عظيمة لا ننساها أبداً، ولن يشفع لنا إلا ما عملنا أو قدمنا، وكل ما نعمله وكل ما نبذله من جهد فلنراجع أنفسنا فيه، ماذا أثمر؟
    وماذا أنتج؟
    وبذلك نكون -إن شاء الله- على المنهج القويم الذي فيه تتحول الجهود إلى حركة ذاتية منضبطة على أمر الله وأمر رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وليس مجرد هيجانات، أو ثورات عاطفية سرعان ما تخبو، وسرعان ما تخفت.
    أسأل الله العظيم رب العرش الكريم لي ولكم الثبات على الحق في المحيا والممات إنه سميع مجيب، والحمد لله رب العالمين.